شغف يملأ الأجواء تشعر به ويأسرك وتكاد تلمسه بيديك منذ اللحظات الأولى التي تلج فيها مكاتب مسرع مركز دبي المالي للأعمال (فينتك هايف)، مشاعر ملهمة تتدافع أمامك بسرعة الطموحات والأحلام المحيطة المنطلقة في رحلتها إلى دنيا الواقع، يتوجها «حلم اليونيكورن» الذي تستقبلك صورته بمجرد دخولك لتختصر لك الفكرة وتنبئك بأن المسرع يقوم على فكرة أساسية هي أن الطموح يجب ألا تكون له حدود. ولدى لقاء رجاء المزروعي نائبة الرئيس التنفيذي للمسرع، يتجسد أمامك الشغف بكل تفاصيله في كلماتها المتحمسة ورؤيتها الطموحة واهتمامها وحرصها، ففي بعض الأحيان تشعر بأنها تعرف تفاصيل عمل كل شركة من شركات المسرع، وتتحدث عنها بدقة تفوق حديث أصحاب الشركة أنفسهم.
المسرع لمن لا يعرفه تأسس قبل عامين في مركز دبي المالي العالمي لرعاية واحتضان شركات التكنولوجيا المالية (الفينتك) التي هناك شبه إجماع في القطاع على أن المستقبل لها في عالم الخدمات المالية، ودبي كعهدها دوماً سباقة إلى رعاية واحتضان كل ما هو جديد وواعد.
وجاءت البداية بحسب المزروعي كجزء من توجه مركز دبي المالي العالمي للنظر في استراتيجية مستقبل الخدمات المالية، خاصة مع التغيير الجذري الذي تحدثه التكنولوجيا المتقدمة في مختلف القطاعات، حتى إن الشركات الرائدة في العالم كانت تتصدرها في الماضي شركات خدمات مالية ونفط، ولم يكن بينها سوى شركة أو اثنتين، أما اليوم فنرى شركات التكنولوجيا في الصدارة مثل «فيسبوك» و«أمازون» وغيرهما.
ومن هذا المنطلق يسعى المركز إلى توظيف التكنولوجيا بشكل إيجابي على مستوى الخدمات المالية، وإلى تشجيع الشركات المؤسسة في المركز على الاستفادة من هذه التكنولوجيا قبل فوات الأوان، وقبل أن تتحول شركات تكنولوجيا الخدمات المالية إلى منافس لها. وهكذا تبلورت فكرة إنشاء المسرع ليشجع الشركات الأعضاء في المركز على الاستفادة من هذه التكنولوجيا في الوقت الذي يدعم فيه المركز شركات تكنولوجيا ناشئة لتحقيق وجودها والاستفادة من الخبرات التي يتيحها لها المركز.
وبدأ المسرع باحتضان 12 شركة عام 2017، وارتفع عدد المشاركين في المسرع في 2018 إلى 22 شركة، ووصل عدد الشركات الناشئة التي يستضيفها البرنامج هذا العام إلى 31 شركة، بزيادة نسبتها حوالي 50% على العام السابق.
تحدٍ جديد
وقالت المزروعي إن المسرع بدأ أول جولة له بالشراكة مع 11 مؤسسة مالية عالمية، مثل «فيزا» وبنوك محلية، لافتة إلى أن هذه المؤسسات حرصت على المشاركة في هذه المبادرة والتعاون مع المركز؛ لما له من سمعة طيبة وبنية تحتية وتشريعية متميزة.
وقالت إن سلطة دبي للخدمات المالية أصدرت ترخيص اختبار الابتكار لتتمكن الشركات في المسرع من طرح المنتج تحت تنظيم السلطة، بما يوفر له بيئة مناسبة بعدد محدود من العملاء لا يتجاوز ال10 يساعدونه على اختبار وتقييم نجاح المنتج أو الخدمة قبل التخرج والحصول على ترخيص كامل للعمل تحت مظلة المركز.
ويتعاون المسرع اليوم مع 21 مؤسسة مالية من الإمارات ودول المنطقة والمؤسسات المالية العالمية، وتقوم هذه المؤسسات بداية ببحث أهم التحديات التي تواجه القطاع المالي في المنطقة، ومن ثم يتم اختيار تحدٍ أساسي، ويتم فتح الباب أمام الشركات الناشئة للمشاركة في إيجاد الحلول.
وقالت المزروعي إن السنة الأولى لم يتم فيها اختيار تحدٍ؛ بل تم فتح الباب أمام شركات التكنولوجيا المالية الناشئة لاستعراض منتجاتها المتنوعة، أما في العام الثاني فكان التحدي هو الشمول المالي والمدفوعات واستخدام تقنية البلوك تشين في الخدمات المالية.
أما تحدي العام الجاري، فهو أمن المعلومات وخدمة العملاء وتنظيم العمليات الخلفية للمؤسسات المصرفية. وفي الدورات الثلاث كان هناك تركيز على خدمات الفنتك الإسلامي، الذي كان من الأولويات.
وفي العام الأول كان عدد طلبات المشاركة 110 وارتفع إلى 300 ثم 425 طلباً على التوالي في العامين التاليين. وبمجرد استقبال الطلبات يتم رفعها إلى المؤسسات المالية الشريكة لتقييمها واختيار الأنسب منها، ومن ثم تأتي المرحلة الثانية وهي المقابلات التي تجريها البنوك والمسرع مع المتسابقين. ووصل عدد المقابلات إلى 65 شركة هذا العام، ووقع الاختيار على 31 شركة، علماً بأن حق التصويت حصري للمؤسسات المالية الشريكة.
ويتعامل المسرع مع شركات لها وجود فعلي ولديها على الأقل عميل واحد، وليس مع مجرد أفكار. وقالت المزروعي إن السبب في ذلك هو أن التعامل هنا مع بنوك، ولابنوك عموماً لا تحبذ التعامل مع مجرد أفكار؛ بل يهمها أن يكون للشركة وجود فعلي ولديها فرصة للتوسع، ما يمنحها مصداقية.
وتضم قائمة المرشحين النهائيين لهذا العام 15 شركة ناشئة متخصصة في التكنولوجيا المالية، و4 شركات متخصصة في التكنولوجيا المالية الإسلامية، و10 شركات متخصصة في تكنولوجيا التأمين، وشركتين متخصصتين في التكنولوجيا التنظيمية.
وستحظى الشركات الناشئة لدورة عام 2019 بتوجيه 21 شريكاً، ومن بينهم مصرف أبوظبي الإسلامي، ومصرف الإمارات الإسلامي، وبنك الإمارات دبي الوطني، وشركة فينابلر، وبنك «إتش إس بي سي»، وبنك الفجيرة الوطني، ونور بنك، وبنك الرياض، وبنك «ستاندرد تشارترد»، وشركة فيزا، إضافة إلى الشركاء من المؤسسات المالية بما في ذلك البنك العربي وبنك أبوظبي الأول.
ويعتبر برنامج «فينتك هايف» في المركز المالي من بين أفضل 25 مختبراً للابتكار المالي في جميع أنحاء العالم، والمسرّع الوحيد في منطقة الشرق الأوسط الذي حصل على جائزة أفضل مختبر للابتكار المالي من مجلة جلوبال فاينانس. وتعزز الجائزة مكانة مركز دبي المالي العالمي بين نظرائه العالميين، بما في ذلك المراكز المالية في لندن وفرانكفورت ونيويورك، وسنغافورة وهونج كونج.
وكان المركز قد أطلق صندوقاً متخصصاً في قطاع التكنولوجيا المالية بقيمة 100 مليون دولار، لتسريع وتيرة تطور التكنولوجيا المالية في المنطقة.
وحول نسبة نجاح الشركات المتنافسة بالمسرع في تحقيق النمو المرجوّ لتتحول إلى عضو عامل فعلي في المسرع، قالت المزروعي إنها تصل إلى 50% من المتسابقين الذين يثبتون نجاحاً، ويختارون الحصول على ترخيص عمل من المسرع الذي يتيح تراخيص بتكلفة أقل، كما يوفر للشركات الأعضاء مساحة عمل مشتركة.
وأوضحت أن المسرع يوفر للشركات فرصة للاستفادة من بيئة العمل في المركز، لكن بأسعار مدعمة تساعدهم في بداياتهم، فالترخيص للعمل من خلال المسرع لا يزيد على 1500 دولار للشركة، مقابل 20 ألف دولار تكلفة الحصول على ترخيص من المركز.
كما أن أسعار الإيجارات، وفي الواقع طريقة التأجير سلسة؛ إذ يتم التأجير بالكرسي مقابل 500 دولار للكرسي الواحد في الشهر، وهناك مرونة، فإذا كان سيسافر لفترة يمكنه ألا يستأجر خلالها على سبيل المثال ليعود ويستأجر من جديد على حسب حاجته.
ويوفر المسرع من خلال مسابقاته، الفرصة أمام الشركات للاستفادة من وجود المؤسسات المشاركة التي تقدم له الإرشاد بداية، ويمكنها أن تقدم له في نهاية المطاف فرص العمل، فإذا حصل على فرص عمل يكون من الأسهل له الاستمرار في المسرع والحصول على ترخيص رسمي لمزاولة أعماله في الإمارات.
وقالت المزروعي إن الشركات التي لم تحقق فرص عمل فهذا لا يعني إخفاقها، لكن ربما يكون المنتج لا يتناسب واحتياجات ومتطلبات القطاع المالي في الدولة والمنطقة.
ويبقى تحدي التمويل الهم الرئيسي لأي شركة ناشئة أو صغيرة، ولدى سؤال المزروعي عن كيفية مساعدة شركات المسرع على تجاوز هذا التحدي، قالت إنه إضافة إلى الصندوق الذي أطلقه المركز لدعم شركات التكنولوجيا المالية، هناك 15 شريكاً من شركات التمويل والاستثمار في المشاريع الناشئة والصغيرة منها «ومضة»، ويتم دعوة هذه الشركات لمتابعة رحلة المتسابقين واللقاء معهم، ويستمر التواصل خلال فترة المسابقة التي تستمر ثلاثة أشهر، وفي نهاية البرنامج يقيم المسرع يوم المستثمر.
وجمعت الشركات في الدورة الأولى 18 مليون دولار، وفي الثانية 50 مليون دولار، وعادة ما يستغرق التقدير فترة سنة.
ومن أهم المنتجات التي قدمتها شركات المسرع، المستشار المالي الروبوت الذي قدمته شركة «ثروة» التي تخرجت من ترخيص اختبار الابتكار وحصلت على ترخيص كامل، إضافة إلى تقنية اعرف عميلك الإلكترونية، وخدمات البلوك تشين.
طموح أكبر
ولم يكتف المسرع بدوره كحاضنة لشركات التكنولوجيا المالية الناشئة؛ بل أخذ الحلم إلى مرحلة أعلى، حيث كشفت المزروعي خلال اللقاء عن خطط لإطلاق برنامج جديد لشركات «السكيل أب» أو الشركات الطامحة للتوسع، التي ربما تحقق حلم «اليونيكورن» انطلاقاً من دبي.
وقالت إن البرنامج المزمع إطلاقه قبل نهاية العام الجاري، يستهدف الشركات الطامحة للنمو والتوسع والتي لها وجود فعلي وسجلت نجاحاً واعداً بفرص نمو أكبر. وأضافت قائلة، إن هذه الشركات غالباً ما تكون لديها التكنولوجيا الداعمة للنمو، ولا تحتاج لشركاء، لكن ما تحتاجه هو تمويل كبير فوق 5 ملايين دولار، ودعم استراتيجي من شركاء كبار يساعدونها على النمو بسرعة مثل مركز دبي المالي العالمي، وشركات الاتصالات، وما إلى ذلك.
وتُعرّف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية شركات «السكيل أب»، بأنها الشركات التي حققت عائدات تصل إلى 20% على مدى السنوات الثلاث الأخيرة من فترة عملها، ولديها 10 موظفين. وفي تعريفات أخرى، هي شركات حققت على مدى السنوات الثلاث السابقة نمواً سنوياً لا يقل عن 20%، وهي شركات قابلة للنمو والتوسع ومستعدة له.
وأوضحت المزروعي أن السبب وراء الفكرة هو رؤية المركز للتحديات التي عادة ما تواجهها هذه الشركات التي تمتلك فرصاً حقيقية للنمو، لكن ينقصها التمويل للانتقال بأحلامها إلى مرحلة أعلى.
وقالت إن الحصول على التمويل لهذه الشركات يستغرق فترة طويلة، فالوصول إلى صناديق الاستثمار وحده ربما يأخذ عاماً أو أكثر، لكن من شأن البرنامج الجديد الذي يزمع المركز إطلاقه، أن يختصر هذه الفترة إلى ما لا يزيد على شهر واحد، من خلال طرح فرص النمو هذه أمام صناديق الاستثمار المحلية والإقليمية التي لديها اهتمام بالاستثمار في شركات التكنولوجيا المالية في الإمارات والمنطقة (السعودية ومصر إلى الآن). وأكدت حرص المركز الكامل على أن تبقى هذه الاستثمارات ضمن المنطقة.
نادي «يونيكورن»
شركة «يونيكورن» (أحادي القرن) مصطلح اقتصادي يطلق على الشركات الصاعدة لحظة تخطي قيمتها السوقية حاجز مليار دولار.
وتم استخدام هذا المصطلح لأول مرة عام 2013 من خلال الخبيرة المالية الأمريكية أيليين لي، التي وصفته في مقالة لها ب«نادي اليونيكورن»، وذلك على شركات وادي السيليكون التي قفزت قفزة هائلة وتخطت قيمة أسهمها حاجز مليار دولار، حيث يعتبر هذا الأمر إعجازياً ونادراً مثل «أحادي القرن»؛ الحصان الأسطوري. وهناك أيضاً مصطلح أطلقه الخبراء وهو «الديكاكورن» ويعني الحصان ذا العشرة قرون، وذلك على الشركات التي تتخطى حاجز 10 مليارات دولار، وأيضاً هيكتاكورن (بالإنجليزية) للشركات التي تتخطى قيمتها 100 مليار دولار.
وهناك 223 شركة «يونيكورن» في أنحاء العالم، ومن أبرز الشركات التي دخلت النادي حديثاً، «أوبر» و«إير بي إن بي»، و«شاومي» و«دروب بوكس»، و«بينترست».
ومن الإمارات تنطلق العديد من الشركات التي لديها حلم بأن تكون يوماً في نادي «اليونيكورن»، وقد دخلت هذا النادي فعلاً شركة «كريم» التي استحوذت عليها «أوبر» بأكثر من 3 مليارات دولار، لتكون أول شركة تحمل لقب «يونيكورن».
الإمارات بيئة مثالية لطموح ريادة الأعمال
حلم الـ «يونيكورن»
ريادة الأعمال طموح الكثير من الشباب. وأن يصبح المرء رائد أعمال، أن يمسك بأطراف فكرة أو حلم راوده ليصيغه واقعاً ملموساً، يقوده إما إلى نهاية سعيدة تكلل بالنجاح أو إلى كبوة، عليه أن ينهض منها سريعاً ساعياً وراء حلم آخر ومغامرة جديدة.
ولملاحقة حلم النجاح على المرء أن يملك ما يكفي من الجرأة ومن شهية للمخاطرة ليترك كل شيء ويسعى وراء فكرة يؤمن بها، وأن يكون على أتم استعداد لبذل الجهد والوقت بعد الدراسة المتأنية للوصول إلى حلمه.
وتجسد دولة الإمارات البيئة المثالية لمثل هذا الطموح، فالدولة السباقة بما تطرحه من مبادرات دعم ريادة الأعمال، تقدم حاضنات ومسرّعات أعمال تستقطب الشركات الناشئة من مختلف أنحاء العالم وتحتويها ضمن بيئة خصبة موفرة لها كل عوامل النمو والتطور، كما توفر التمويل اللازم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة ضمن صناديق تقدم للشركات أيضاً الدعم الفني وما يلزم من إرشادات واستشارات.
«الخليج» تفتح مساحة لهذه الأحلام من خلال سلسلة من الحلقات التي تسلط الضوء على قصص كُلّل أصحابها بالنجاح، وأخرى لشباب طموح يخطو أولى خطواته على طريق ريادة الأعمال، وآخرين امتلكوا الرغبة والقدرة على خوض غمار التجربة، والسعي ربما إلى حلم أكبر، حلم