المصدر: ومضة.
بلغت تجارة اللؤلؤ في البحرين مع مطلع القرن العشرين ذروتها في حين لم يتم بعد تأسيس الخدمات المصرفية الرسمية في المملكة، وقد أخذ عدد من التجار الأذكياء ودائع من تجار اللؤلؤ واحتفظوا بها في متاجرهم، إذ قدرت قيمة هذه الودائع في عام 1919 بحوالي 2 مليون روبية.
وقد أدت هذه الثروة الاستثنائية إلى قيام التجار بفتح فروع لشركاتهم في بومباي، حيث يمكن لتجار اللؤلؤ المحليين القيام بإيداع أموالهم وإرسالها إلى البحرين، وهو ما يمكن اعتباره نوع من الخدمات المصرفية الأولية المبكرة.
ولطالما عارض هؤلاء التجار إنشاء الخدمات المصرفية الرسمية، التي اعتبروا بأنه ستكون لها آثار كارثية على مصالحهم الاقتصادية، ولكن في النهاية في الثالث من يونيو عام 1920 وبدعم من وزارة الخارجية البريطانية افتتح بنك الشرق رسمياً أول فرع له في البحرين، وبذلك ولدت الصناعة المصرفية الخليجية قبل 100 عام في البحرين.
واتسم صعود الخدمات المصرفية في دول مجلس التعاون الخليجي بالتقلب حيث تصدرت البحرين باعتبارها أقدم وأعرق مركز للخدمات المصرفية والمالية في المنطقة، وباتت البحرين اليوم حاضنة رئيسية لما يقرب من 400 مؤسسة مالية، كما وتتمتع ببيئة تنظيمية وتجارية مستقرة ويمكن التنبؤ بها وثابتة مع وجود كبير للعديد من القطاعات الصناعية وقطاعات الأعمال الرئيسية، وأصبح موقع الخدمات المصرفية والمالية على نطاق أوسع في طليعة جهود التنويع الاقتصادي على مستوى المنطقة، حيث يلعب هذا القطاع أدواراً مهمة في مجمل اقتصاد دول مجلس التعاون الخليجي تقريبًا، و هنا في البحرين يشكل القطاع الآن حوالي 17 % من الناتج المحلي الإجمالي الوطني وذلك باعتباره أكبر مساهم غير نفطي.
وعلى الرغم من تولي قطاعي الخدمات المصرفية والمالية مثل هذه الأدوار البارزة في اقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي إلا أن المنطقة قد تأخرت عن غيرها في التكيف مع العصر الرقمي، ومثلما قاوم التجار الأوائل الذين قدموا الخدمات المصرفية الأولية لتجار اللؤلؤ إنشاء الخدمات المصرفية الرسمية، وبالمثل قاومت البنوك في دول مجلس التعاون الخليجي لبعض الوقت تحولًا نموذجيًا آخر ألا وهو الرقمنة العالمية السريعة.
وبلا شك يرجع ذلك في جزء كبير منه إلى سلوكيات المستهلكين في دول مجلس التعاون الخليجي، وتحديداً تفضيلاتهم المستمرة للنقد الورقي والبيع بالتجزئة، إذ يشير تقرير حديث صادر من KPMG إلى أن مراكز التسوق في دول مجلس التعاون الخليجي هي المحرك الرئيسي لصناعة البيع بالتجزئة، بينما في الولايات المتحدة وأوروبا على سبيل المثال يلعب التسوق عبر الإنترنت دورًا أكبر بكثير.
وفي الواقع لطالما كانت النقود هي الطريقة المفضلة للدفع في الشرق الأوسط حتى بالنسبة للمشتريات عبر الإنترنت، حيث مثل الدفع النقدي عند التسليم نسبة مذهلة بلغت 76% من طلبات التجارة الالكترونية في المنطقة مؤخرًا حتى عام 2017، ولكن في السنوات الأخيرة بدأ التغيير في الحدوث.
وبحسب البيانات الصادرة عن مصرف البحرين المركزي فإن المعاملات التي تمت عبر نقاط البيع تشير إلى وجود ارتفاع مستمر في استخدام بطاقات الخصم والائتمان وذلك من حيث العدد والقيمة، إذ بلغ ارتفاع عدد هذه المعاملات من حوالي 64.5 مليون في 2018 إلى 73.7 مليون في 2019، وذلك بزيادة نسبتها 14.3%.
وعلاوة على ذلك فقد زادت في نفس الفترة أعداد أجهزة نقاط البيع المستخدمة بنسبة 15% كما شهدت قيمة المعاملات التي تمت على نظام التحويل الإلكتروني الوطني (EFTS) ارتفاعًا أيضاً، وشهدت المحافظ الالكترونية مثل Fawri وFawri + وFawateer ارتفاعًا بنسبة 13.4% في إجمالي المبالغ المحولة إلى 12.7 مليار دينار بحريني في عام 2019.
وأخذ سلوك المستهلك يبدأ في التحول في الوقت الذي بدأت البنوك البحرينية تحذو حذوه، حيث شهد العامان الماضيان موجة من النشاط من القطاع المصرفي في المملكة لا يمكن وصفها إلا بالثورة الرقمية، وشمل ذلك إطلاق بنك ABC لبنك “ila” وهو أول بنك رقمي بالكامل في المنطقة.
ويعتبر بنك البحرين الوطني أول بنك في المنطقة يطلق خدمات مصرفية مفتوحة، وقام بنك البحرين الإسلامي بإطلاق أول فرع افتراضي في البحرين، وقام بنك الخليج الدولي بإطلاق “ميم” وهي أول خدمة مصرفية رقمية متوافقة مع الشريعة الإسلامية في المنطقة.
وانعكست آثار هذه الثورة في الخدمات المصرفية الرقمية والمدفوعات على جميع أنحاء المنطقة، إذ بلغ انتشار المدفوعات عبر شبكة الإنترنت في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ما نسبته 76%، كما أنه من المتوقع أن تزداد هذه النسبة، إلى جانب نمو حجم التجارة الالكترونية بشكل كبير من 8.3 مليار دولار أمريكي في عام 2017 إلى 28.5 مليار دولار أمريكي في عام 2022.
ويمكننا القول باختصار بأن التحرك نحو التحول الرقمي قد أضحى جاريًا بالفعل، ولكن حدث بعد ذلك حدث عالمي مفاجئ من شأنه أن يحفز الحركة، ويغير سلوك المستهلك بشكل حاسم، وبالتالي أنشطة مقدمي الخدمات المباشرة في العصر الرقمي ألا وهو جائحة. COVID-19
وقد استجابت الحكومات في جميع أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي بسرعة وبقوة للجائحة، ففرضت عمليات إغلاق صارمة وأغلقت مؤقتًا قطاعات الأعمال غير الأساسية في مرحلة مبكرة، كما شهد سلوك المستهلك في البحرين تغييراً فوريًا ومذهلًا، حيث حقق نظام تحويل الأموال الالكتروني (EFTS) في مارس 2020 زيادة بنسبة 1257٪ في عدد التحويلات من خلال خدمة Fawri + وحدها – بقيمة حوالي 103 ملايين دينار بحريني (273 مليون دولار أمريكي).
وبعد مضي تسعة أشهر يبدو أن المعاملات عبر منصة BenefitPay في البحرين في طريقها لتتجاوز 4 مليارات دولار بنهاية عام 2020، بعد أن قامت بتسهيل إنجاز 3.99 مليار دولار من المعاملات بحلول نهاية نوفمبر من هذا العام.
وبينما نتطلع إلى الوضع الطبيعي الجديد فإنه وعلى ما يبدو أن هنالك العديد من هذه العادات الاستهلاكية الجديدة التي ستكون في طريقها نحو البقاء، فوفقاً لمسح من Mastercard شمل المستهلكين في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا فقد قال 70٪ من المشاركين في المسح أنهم عكفوا الآن على استخدام شكل من أشكال الدفع اللاتلامسي وسط مخاوف تتعلق بالسلامة فيما يتعلق بالوباء، إذ قال 81% إنهم سيستمرون في استخدام تقنية الدفع بدون تلامس وذلك بمجرد انتهاء الوباء، وهو ما يشير إلى تحول سلوكي طويل الأجل.
وختاماً لما ذكرناه فلا عجب أن نرى المنصات في جميع أنحاء المنطقة تواصل تعزيز عروضها لتكنولوجيا المدفوعات للعملاء في جميع أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي، والتي تضم أكثر من 54 مليون شخص تجمعهم في الغالب لغة مشتركة وعادات استهلاكية مماثلة، ناهيك عن بعض من أعلى معدلات انتشار الإنترنت والهواتف الذكية في العالم.
وربما تكون الخدمات المصرفية الرسمية قد ظهرت في المنطقة منذ قرن مضى فقط، ولكن ستكون التطبيقات والمنصات مثل Careem وTalabat وBenefit وApple وAndroid محقة لو راهنت على أن تكون دول مجلس التعاون الخليجي مركزاً للمدفوعات الرقمية في المستقبل.