المصدر: اندبندنت عربية.
رسم حاكم مصرف لبنان بتصريحاته الجريئة نهاية حقبة ما بعد “الحرب الأهلية”، ليعلن رسمياً بداية حقبة جديدة قد تعرف لاحقاً بحقبة ما بعد الانهيار المالي.
فعلى مدى 30 عاماً، وفي مرحلة ما بعد الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان 15 عاماً، انتهج البلد سياسة نقدية قائمة على استقرار سعر الصرف وربطه بالدولار الأميركي عند مستويات بقيت مستقرة عند 1507 ليرات للدولار الواحد.
سياسة أمنت عودة إطلاق عجلة النمو وازدهار لبنان، فعرف اللبنانيون عصرهم الاقتصادي الذهبي لتقلب الحرب السورية عام 2011 كل المقاييس. فالمخاطر والتداعيات الناتجة عن عدم الاستقرار على حدود لبنان الشمالية والنزوح السوري، عاملان أثقلا ميزان المدفوعات، وحدّا من الاستثمارات، ليواجه لبنان اليوم وحيداً مصيراً مجهولاً، اقتصادياً ومالياً ونقدياً.
تصريحات الحاكم سلامة لم تمر مرور الكرام، بل أثارت عاصفة في الشارع اللبناني، خوفاً مما قد تؤول إليه الأمور المعيشية في ظل تردي الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي والسياسي والاجتماعي.
وإلى جانب سعر الصرف، تحدث سلامة عن توجهات المرحلة المقبلة خلال تصريحات لشبكة إعلامية غربية.
سعر صرف محرر
فالمشكلة أولاً، بحسب سلامة، تكمن في استعادة الثقة عبر استعادة التوازن في ميزان المدفوعات، وإطلاق مفاوضات مع الدائنين بعد تخلف الدولة عن سداد ديونها من دون خطط واضحة، وإعادة هيكلة المصارف والخروج من تعدد أسعار الصرف في السوق اللبنانية. وشدد على ضرورة تشكيل حكومة لإدارة الأزمة وإطلاق عجلة الإصلاحات.
وأعلن سلامة أنه بعد المصادقة على قانون السرية المصرفية في المجلس النيابي، سيبادر المركزي بتسليم كل حسابات زبائنه بما يقتضيه التدقيق الجنائي، بعد أن كان قد سلم كل الحسابات المرتبطة بالمصرف المركزي إلى الشركة المكلفة التدقيق، رافضاً اتهامه بالقيام بمخطط بونزي (Ponzi Scheme).
وشرح أن المصرف المركزي ليس مصرفاً استثمارياً، ومهامه محددة بالقانون، وهو يقوم بإدارة النقد لتحفيز الاقتصاد والسيطرة على التضخم.
وبين الحاكم أن المركزي أعاد إلى المصارف كل الأموال بالعملات الأجنبية التي تلقاها من قبلهم، إضافة إلى 13 مليار دولار من النقد الأجنبي من مصرف لبنان، وذلك خلال الفترة بين 2017 و2020. وبالتالي لم يحقق المركزي أي أرباح، ولا يمكن اتهامه بالقيام بمخطط بونزي.
فالسيولة في المصارف استعملت لتمويل الاستيراد، بحسب سلامة، فخلال هذه الأعوام الثلاثة، خرج من لبنان إجمالي 65 مليار دولار، وهو حجم كبير بالمقارنة مع الاقتصاد اللبناني.
وتابع سلامة أنه لو قام بمخطط بونزي أو أي مخطط احتيالي لسرقة الأموال، لما كان استطاع المركزي أن يحمي المصارف من الإفلاس على الرغم من اشتداد الأزمة، ولما كان استطاع أن يؤمن النقد الأجنبي على مدى 13 شهراً لدعم المواد الأساسية من محروقات ودواء وغذاء.
وعن الفوائد المرتفعة التي أتاحها المركزي للمصارف في المرحلة الماضية، والتي بحسب النقاد أسهمت بتباطؤ ازدهار مناخ الأعمال، فبين أن المخاطر كانت تحتم فوائد مرتفعة، وهي عموماً في تلك المرحلة كانت أقل من الفوائد في تركيا ومصر. وتابع أن المصارف لم تجبر على العمل مع المركزي، كما كان لها حرية القرار في الاستثمار في سندات الدولة.
أما عن الأموال التي خرجت من النظام المصرفي بعد 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، فكشف سلامة عن أنه كان قد تقدم باقتراح لإقرار قانون تقييد الودائع (Capitol control)، أو إعطاء المركزي صلاحيات استثنائية لإدارة النقد رفضت من قبل الطبقة الحاكمة.
وعن إجمالي الأموال المحولة التي بلغت 2.6 مليار دولار، فقد تحول 1.6 مليار دولار منها لبنوك مراسلة، وخرجت مليار دولار كأموال خاصة لبعض اللبنانيين.
أما بخصوص المرحلة المقبلة، فقالها حاكم مصرف لبنان صراحة: “سعر الصرف سيكون محرراً، وسيحدد السوق سعر الصرف، وسيتم ذلك بالتعاون مع صندوق النقد، وسيتدخل المركزي للحد من أي تقلبات حادة”.
خيارات لبنان مُرة
ويشرح الأستاذ الجامعي والباحث الاقتصادي جاسم عجاقة، أن ذلك يعني التخلي عن تثبيت سعر الصرف مقابل عملة أجنبية (أو سلة من العملات الأجنبية)، وإن كان داخل هامش يحدده المصرف المركزي (حالة مصرف لبنان)، أو من خلال سعر ثابت (مثلاً مجلس النقد)، ويتم ترك تحديد سعر الصرف للسوق من خلال آلية العرض والطلب.
وهناك آليتان لتعويم العملة، وهما التعويم الخالص أو الكلي، وهو عبارة عن تحرير كامل من دون أي تدخل من قبل المصرف المركزي أو الحكومة. والتعويم الموجه، وهو عبارة عن تحرير لسعر الصرف مع تدخل من قبل المصرف المركزي (عند الحاجة)، وذلك بهدف توجيه السوق باتجاه معين لتغطية فجوة بين العرض والطلب.
ويترك الواقع الاقتصادي والسياسي المواطن اللبناني في حال من الخوف لا مثيل لها من مصير أسود يراه محتماً، بحسب عجاقة. هذا المصير يتمثل بكون 70 في المئة من المعاملات التجارية تتم على سعر الصرف الرسمي (1515)، وسعر المنصة الإلكترونية (3900)، وبالتالي أي تحرير لسعر صرف الليرة سيؤدي تلقائياً إلى رفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء التي تصبح سوقاً رسمية بعد التحرير، إلى مستويات لن يكون باستطاعة المواطن المحافظة على قدرته الشرائية، أقله لشراء حاجاته الأساسية، خصوصاً أن مدخول عديد من المواطنين لا يتخطى مليون ليرة شهرياً. والجدير ذكره أن العيش بحدوده الأدنى (الفقر المدقع) يفرض أن يكون مدخول عائلة مؤلفة من خمسة أشخاص أكثر من 2.5 مليون ليرة لبنانية.
احتياطات مصرف لبنان من العملات الأجنبية تضمحل يوماً بعد يوم، ومع غياب أي أفق سياسي ناحية تشكيل حكومة قادرة على القيام بإصلاحات اقتصادية ومالية ونقدية، ما هو السيناريو المطروح في حال تم تعويم الليرة اللبنانية؟
يرى عجاقة أن لبنان أمام سيناريوهين؛ الأول هو تعويم سعر الصرف في ظل اتفاق مع صندوق النقد الدولي. وفي هذه الحالة سيكون هناك ارتفاع في الأسعار مع سيطرة مدروسة على سعر الصرف. وفي حال قامت الحكومة بإصلاحات اقتصادية ومالية ونقدية، فمن المرجح أن يكون العام الذي يلي التوقيع على برنامج صندوق النقد عاماً صعباً على أن يعود النمو ويتحسن الوضع الاقتصادي بدءاً من العام الذي يليه.
والسيناريو الثاني هو تعويم سعر الصرف في ظل غياب أي اتفاق مع صندوق النقد، وفي هذه الحالة هناك احتمال لسيناريوهات كارثية مع وصول الدولار إلى مستويات ستؤدي حكماً إلى فوضى أمنية، ولكن أيضاً مع بدء الملاحقات القانونية بحق الدولة اللبنانية نتيجة عدم بت موضوع الديون السيادية مع حاملي سندات الخزينة. والأصعب في هذا السيناريو أن الدولة ستنهار من خلال مؤسساتها في ظل ظهور تكتل إقليمي واضح سيعزل لبنان كلياً، ويكون للأيدي الاستخباراتية دور سيئ في ضخ الفوضى في لبنان على مثال التطبيقات على الأجهزة الخليوية، والتي تعطي أسعار صرف للدولار لا تمت بالضرورة لأي واقع، أي بمعنى آخر سيكون لبنان تحت رحمة هذه التطبيقات التي ستعبث بالأخضر واليابس.
ويفرض الواجب الوطني تشكيل حكومة في أسرع وقت ممكن، حكومة تستوفي الشروط الدولية لكي يتم دعم لبنان مالياً، خصوصاً بعد تصريح حاكم مصرف لبنان بعدم قدرة المركزي على الاستمرار في الحفاظ على الثبات النقدي، وبالتالي لا مجال أمام لبنان للخروج من هذه الأزمة بقدرته الذاتية، بل يحتاج إلى دعم خارجي ربطه المجتمع الدولي بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي. وسيؤدي عدم تشكيل حكومة إلى دخول لبنان في عزلة قاتمة قد تكون أكبر من عزلة فنزويلا، نظراً إلى أن لبنان لا يمتلك حتى الساعة موارد طبيعية يستطيع من خلالها سد حاجاته المالية.
حكومة أو لا حكومة
ويؤكد المصرفي وخريج جامعة هارفارد نيكولا شيخاني أن الوضع الاقتصادي مرشح لمزيد من التدهور، كما صرح سلامة في حال عدم تشكيل حكومة سريعاً. فاستمرار الفراغ الحكومي يهدد بمزيد من الانهيار لسعر الصرف، يجعل معه من الصعب استعادة التوازن ومحاولة توحيد الأسعار عند مستويات للصرف منطقية تعيد إطلاق عجلة الاقتصاد.
وفي حال تشكيل حكومة لبنانية، والأفضل أن تكون حكومة اختصاصيين غير حزبيين بانتماء وطني، فستشكل الحل شبه الوحيد للبدء باستعادة الثقة داخلياً.
أما لتعويم العملة بشكل ناجح، يتابع شيخاني، فيجب النظر إلى خفض عجز الموازنة الذي كان يسجل بين خمسة وستة مليارات دولار سنوياً خلال الأعوام الماضية.
وتوقع أن يسجل عجزاً أكبر مع توقف الحركة الاقتصادية وخروج كثير من المؤسسات والشركات من سوق العمل، ما يؤثر مباشرةً على إيرادات الدولة، إضافة إلى انفجار المرفأ وخسائره، وذلك على الرغم من توقف الدولة عن سداد ديونها.
مقاربة للأرقام المتوقعة هذا العام
– عجز الميزان التجاري سيسجل في حدود سبعة مليارات دولار من مستويات لامست 20 مليار دولار خلال 2018، وذلك في ظل انكماش الاقتصاد وتقلص الاستهلاك.
– تحويلات المغتربين مقدرة بنحو 3.5 مليار دولار.
– عجز ميزان المدفوعات إذا تحرك سيكون حول مستوى 3.5 مليار دولار، وهو مستوى جيد، وبالإمكان البناء عليه لإعادة التوازن في مالية الدولة.
تعويم العملة ممكن
في لبنان ثلاثة أسعار مختلفة لصرف الدولار بحسب شيخاني، وهي: السعر الرسمي: 1515 ليرة للدولار، وسعر المنصة التي أطلقها مصرف لبنان: 3900 ليرة للدولار، وسعر السوق السوداء: 3900 ليرة للدولار. وفي حال التوجه لتعويم سعر الصرف أو محاولة توحيده، سيتطلب ذلك الأخذ بالاعتبار الأسعار الثلاثة، التي تحكم السوق حالياً ومحاولة إيجاد مستوى بينها.
ووفق شيخاني، فإن سعر صرف معوم وموجه من قبل مصرف لبنان يتحرك حول 5000 ليرة للدولار الواحد، قد يشكل سعراً منطقياً إذا ما اتخذ القرار بتحرير سعر الصرف. أما الحفاظ على استقرار السعر المعوَّم، فسيتطلب العمل على الحفاظ على استقرار وفوائض في ميزان المدفوعات، تدخل عملة صعبة إلى لبنان فتحد من استهلاك الاحتياط في المركزي، كما تؤمن عدم خروج النقد الأجنبي من لبنان. وهنا تحديداً، في ميزان المدفوعات، يكمن سر استقرار سعر صرف معوم.
ويشدد على ضرورة أن يبدأ التفاوض مع الدائنين الدوليين، وهذا طبعاً منوط بتشكيل حكومة للحد عن خطورة الوضع.