Special File
المصرف الدولي أعلن عن خفض انتشار مقاره إلى النصف تقريباً وإذا قلده آخرون، فستكون العواقب الاقتصادية والاجتماعية عميقة

المصدر: Independent عربية

حينما يعلن واحد من أكبر المصارف المتعددة الجنسيات في العالم، ويعمل لديه حوالي ربع مليون موظف، أنه سيخفض حوالي نصف المساحات المكتبية التي يشغلها، فإن ذلك يشير إلى تغيير عميق في عالم العمل المكتبي.

الرئيس التنفيذي لـ “أتش أس بي سي” أفاد بإن قرار المصرف بخفض المساحة المكتبية على مستوى العالم بنسبة 40 في المئة من شأنه أن يؤدي إلى “أسلوب مختلف تماماً في نمط العمل بعد كورونا”.

وبطبيعة الحال، وفق ما يعلم كل موظف في مكاتب العالم المتقدم، حدث بالفعل نمط مختلف تمام الاختلاف في العمل بسبب ثورة “العمل من المنزل” الكبرى التي بدأت العام الماضي مع فرض الجائحة إغلاقات في مختلف أنحاء كوكب الأرض، من “ووهان” إلى واشنطن.

واستطراداً، فإن ما يشير إليه قرار الشركة المصرفية العملاقة التي تتخذ من لندن مقراً لها، يتجسّد في أن هذا التوجه قد تصبح ثورة دائمة، وأن الوضع الطبيعي القديم للحياة المكتبية لن يعود، بعد إعطاء اللقاحات والقضاء على الجائحة.

ولنلاحظ أيضاً أن بعض الشركات الكبرى الأخرى كانت أكثر تحفظاً. فقد استبعد مصرف “باركليز” وشركة الخدمات المالية الأميركية العملاقة “جي بي مورغان” المضي إلى ما ذهب إليه “أتش أس بي سي” في الحد من انتشاره المكتبي.

في المقابل، إذا حذا أصحاب العمل الكبار الآخرون حذو “أتش أس بي سي”، فمن المتوقع أن تكون العواقب الاقتصادية والاجتماعية عميقة، فقد أخبر “تويتر” الموظفين في الولايات المتحدة بأنهم يستطيعون العمل من المنزل “إلى الأبد”(مؤخراً).

وفي بعض الحالات، وفق لما اختبره الناس بالفعل، سيكون الأثر مفيداً. إذ سينفق الناس قدراً أقل من المال على وسائل النقل العام، فتزداد على الفور مداخيلهم المتاحة. ومن المرجح أن يشعر العاملون في مدن كبيرة ومكتظة بإجهاد وإرهاق أقل، بسبب استغنائهم عن التنقلات الطويلة. وسيرى عدد من العاملين أطفالهم وعائلاتهم أكثر من قبل، وسيعود هذا بمنافع كبيرة على جودة حياتهم.

من جهة أخرى، سيتضمن الأمر جوانب سلبية أيضاً. فقد تمكن بعض العاملين (الأحسن أجراً والأكبر سناً) من الاستفادة من الغرف المكتبية أو الغرف الاحتياطية في إعداد كمبيوتراتهم، لكن غيرهم (الأسوأ أجراً والأصغر سناً) اضطروا إلى تحويل غرف النوم أو موائد غرف المعيشة، مساحات مكتبية مؤقتة. وربما يشعر عديد من أفراد المجموعة الأخيرة بقدر أقل من الحماسة إزاء هذا الجانب من استمرار العمل من المنزل.

واستكمالاً لتلك الصورة، فعلى الرغم من أن الناس سيدخرون نفقات التنقل، سترتفع نفقاتهم المنزلية التي تشمل التدفئة المنزلية، والمكالمات الهاتفية، وتكاليف تكنولوجيا المعلومات، وما إلى ذلك. وبطبيعة الحال، يعني العمل من المنزل إدارة مكتب من المنزل أيضاً. وأما العاملون الأصغر سناً، خصوصاً المعينين حديثاً، فسيواجهون مشكلة إضافية تتمثل في الحد من القدرة على التعلّم من زملاء أكثر خبرة في المكتب. إن تأثير العمل من المنزل في التقدم الوظيفي غير واضح. أما أولئك الذين يفتقدون زمالة الحياة المكتبية وتضامنها، فسيشككون أيضاً في استمرار أنماط العام الماضي من العمل. وهذا يمثل خفضاً محتملاً لمستويات جودة المعيشة.

وهناك اعتبار آخر يتمثل في الإنتاجية. إذ لا تشير الدراسات إلى تدهور كبير في الإنتاجية لدى العاملين في وظائف مكتبية في العام الماضي، لكن البعض يخشون أن تتعرض قدرة المؤسسات على الإبداع في المدى البعيد إلى التراجع، اوأنن تشهد مشاركة الأفكار وانتقادها بصورة شخصية، عرقلة دائمة بسبب العمل الدائم من المنزل. وستكون الآثار الاقتصادية الأوسع كبيرة أيضاً. فمن المرجح أن تستفيد المتاجر المحلية من زيادة العملاء، لكن قد تحدث كارثة في الشركات التي تخدم العاملين في المكاتب، كالمقاهي التي تقدم سندويشات، ومحال تنظيف الملابس، والنوادي الرياضية، ووكالات الصحف، وما إلى ذلك. واتصالاً بذلك، ستبرز علامات استفهام حول جدوى مشاريع النقل التي تستند خطط أعمالها إلى افتراض حصول نمو مطرد في التنقل.

وفي سياق متصل، ستحدث ثورة أيضاً في مراكز المدن. فمن شأن نزوح العاملين المكتبيين أن يولّد فجوات كبيرة قد تواجه المجالس المحلية ضغوطاً من أجل سدّها، ربما من خلال تحويل المباني المكتبية إلى مساكن. وقد يشكل ذلك نعمة لحيوية بعض المدن، لا سيما إذا أصبح للإسكان تكلفة معقولة أكثر.

وثمة دلائل تشير إلى حدوث هذا بالفعل. فقد أعلنت حكومة كوريا الجنوبية عن خططها الرامية إلى إضافة 114 ألف وحدة سكنية عامة عبر شراء فنادق ومكاتب فارغة وتحويلها [وحدات سكنية]، وتأمل سنغافورة في تحويل مواقف السيارات التي باتت فائضة الآن في منطقة الأعمال المركزية، منازل ومتاجر.

وفي حين قد تتكيف نزولاً أسعار المساكن في مناطق التنقل الساخنة سابقاً، قد تقفز الرغبة في مزيد من المنشآت الأكثر اتساعاً التي تتمتع بحدائق أكبر، وتكون في أمكنة أبعد عن المدن الكبرى.

وفي ذلك الصدد، ستتوقف أشياء كثيرة على مدى اتساع هذا التحول. في هذا الأسبوع أشار “أتش أس بي سي” إلى نظام “هجين”، بمعنى أن العاملين سيقضون بضعة أيام في الأسبوع في المكتب وبضعة أيام في العمل من المنزل. وتشير الاستطلاعات إلى أن هذا يشكّل التوازن الذي قد يفضله عديد من العاملين.

وكخلاصة، إذا جسّد النظام الهجين ما سيكونه الوضع الطبيعي الجديد، فسيصبح التكيف الاقتصادي والاجتماعي أقل دراماتيكية من التحوّل الدائم إلى العمل الحصري من المنزل. إذاً، يتلخص التحدي الذي يواجه الشركات في الاحتفاظ بالأشياء الأفضل والأكثر قيمة فيما يتصل ببيئة العمل المكتبي التقليدي، من وجهة نظر المديرين والعاملين معاً، مع الاستغناء عن بقية الأشياء.